(0)
انتهيت
قبل أسبوع ويزيد من الكتاب الأول لخماسية مدون الملح: التيه. ولست الآن بصدد تناول
الكتاب. عندما تحدّث منيف عن حرّان (الظهران كما أعتقد)، حران الأمريكان وبيوتها
ورفاهيّتها، حرّان العرب ناسها وجمالها والفلاة الرحبة، وبينهما "الأفران
الخانقة" مساكن العمال، التيه والغربة الحقيقيّة. هذه المدينة الجديدة كما يقول
منيف، في الوسط، المرحلة التي أُرغم عليها الناس هنا، ضُيّقت عليهم أرض الله
الواسعة وضيقهم هذا "البركسات" لم يمتاز حتى بجهاز تكييف. وحتى تتكوّن
لدي معرفة لا بأس بها لأواصل قراءة الخماسية، أقرأ هذه الأيام كتاب الحركة الوطنية
السعودية – الجزء الأول، للمؤلف السيد علي السيد باقر العوامي، معاصر وشاهد على
الأحداث. في كتاب العوامي، تناول أنواع مساكن الطبقات التي تعمل في أرامكو مع
أحداث الحركة العمالية الأولى عام 1953م.، أقتبس فيما يلي أولًا ما قاله منيف عن
المساكن في الرواية، ثم ما كتبه العوامي.
(1)
المدينة الجديدة، الواقعة بين حران العرب وحران الأمريكان، قريبًا من التلال وفي مواجهة البحر، بدأت بثلاثة بركسات كبيرة بنيت على عجل من الخشب والصفيح، أما الأرض فقد فرشت بالإسمنت، وأكد دحام ونعيم وهما يشرفان على انتقال العمال وتوزيعهم على البركسات "إنها مؤقتة، وبعد فترة سوف تبنى للعرب بيوت مثل بيوت الأمريكان.".انتقل العمال إلى البركسات بعواطف متباينة أشد التباين، إذ نتيجة خصومات عديدة وقعت بسبب الخلاف على جلب الماء من الآبار، أو تنظيف الأرض تحت الخيام، إذافة إلى الضجة التي كان يحدثها لاعبو الورق، والتي كانت تمنع الكثيرين من النوم، لقرب الخيام بعضها من بعض، فقد رأس بعض العمال "إن البركسات مكان نظيف والماء على بعد خطوتين والبركس غير الخيمة.". أمّا آخرون فقد رأوا أن مجرد الانتقال من الخيمة، من هذا القبر، وبعدها لو عاش الإنسان في الفلاة، تحت السماء، يمكن أن ينقذهم من حالة الضيق التي بدأت تسيطر عليهم وتجعلهم متوتري الأعصاب سريعي الغضب. كانوا بحاجة إلى تغيير، ولا يهم بعد ذلك إلى أين. ورأى غيرهم أن المكان الذي اختاره الأميركيون وبنوا فيه البركسات هو أسوأ الأمكنة تمامًا، "لأن الإنسان لا يعرف هل هو في الجنة أو في النار، هل هو مع جماعته وبين أهله أم مقطوع في الفلاة.". إر رغم الضيق الذي يعاني منه الجميع فإن العودة كل غروب إلى حران العرب، والمرور بين البيوت والدكاكين، والحديث مع الناس، ورؤية الأطفال والكلاب والحمير والجمال، من شأن ذلك التخفيف من العذاب والصمت اللذين يسيطران طيلة ثماني ساعات في معسكر العفاريت. (...) إن رؤية عبد أو الجلوس قليلًا مع ابن نفاع، ثم سماع أخبار الدنيا من هؤلاء الذين قدموا حديثًا من عجرة أو من أمكنة أخرى، إن هذا يعادل، بنظر الكثيرين، ملكوت الأميركيين كله، خاصة وأن هذا المكان المعزول، وحوله الأسلاك، يجعل الإنسان يحس أنه في سجن حقيقي.(...) أما الذين فرحوا بالانتقال فقد شعروا بالخيبة، لأن الهواء الذي كان يلعب بالخيام، والذي يصبح عذبًا رقيقًا في الليل المتأخر، وعند الفجر، لم يعد له وجود في هذه العلب التي تصبح كأنها الأفران الخانقة، حيث تعبق بالحرارة ورائحة العرق والنوم. أما الجدران الخشبية البيضاء فقد تحولت خلال أسابيع قليلة إلى ألوان لا يمكن تمييزها بعد أن اختلطت وتداخلت بسبب الدخان والأيدي المعروقة والغبار، وأشياء أخرى. وأقسى شيء واجه العمال وسبب لهم ضيقًا لا يمكن مقاومته: سقوف الصفيح. لقد أصبحت هذه السقوف هي العدو الحقيقي، لأنها لم تكن تمطر حرارة فقط، كانت تصب موتًا رماديًا مصهورًا ومستمرًا منذ ساعات النهار الأولى وحتى أواخر الليل، وكانت أشد قسوة وأكثر عداء من وجوه الكثير من الأميركيين وتصرفاتهم ... .وكان الضيق أقوى ما يكون حين يُنقّل العمال نظراتهم من جهة إلى أخرى، فيرون في جهة الشرق حران الأميركان: مضيئة، لامعة، ضاجة، وبدأت تكتسي بالخضرة، ويسمعون عن بعد أصوات الأميركيين وهم يصخبون في البرك، وهم يضجون بالغناء أو المرح، وفي بعض الليالي يطلقون الأسهم النارية الملوّنة فتملأ السماء، خاصة أثناء استقبال مجموعات جديدة. فإذا نظروا إلى جهة الغرب ورأوا بيوت أهل حران وقد انبعث منها الدخان عند الغروب، وامتلأت بأصوات البشر والحيوانات، وأخيرًا إذا نظروا إلى البركسات التي يعيشون فيها، وإلى هذه الحياة الجافة القاسية المعزولة، فعندئذ تدفق الذكريات ويزحم قلوبهم الحنين، ويجدون أسبابًا لا حصر لها للخصومة والحزن، وبعض الأحيان للبكاء.
-
عبد
الرحمن منيف، التيه.
(2)
الطبقة الثالثة، أو الفئة الثالثة؛ فهي طبقة العمال العاديين – غير الفنيين- أو الكتبة من ذوي المراكز الصغرى، ويعرف بالحي العمومي (جنرال) كما يُسمى الحي السعودي؛ لأن كل سكان سعوديون، ويكوّنون الغالبية العظمى من عمال أرامكو، وهو –أيضُا، مثل الحي المتوسط- غرفه على هيئة بلوكات مستطيلة، ووسط كل "بلوك" أو "لاين" غرفة مطبخ مزودة بمواقد الغاز، ويسكن الغرفة شخصان، إلا أن الغرف غير مكيّفة، إنما فيها مراوح سقفية فقط. ويقع الحي السعودي بالظهران في منطقة وعرة وغير ممهدة، تحيطها بعض كثبان الرمال التي تنسفها الرياح داخل الغرف، مما يضطر سكانها إلى إغلاق الأبواب والنوافذ في أغلب الأوقات، وبذلك تصبح حارةً لا يطاق السكن فيها، ولا سيما في عز الظهيرة –أيام الصيف- ولا تجدي المراوح شيئًا، كما أنه يقع في منطقة بعيدة عن مواقع العمل.ولم تكن الشركة، يومذاك، توفر وسائط نقل للعمال من وإلى عملهم، بل كانوا يذهبون إلى العمل، ويعودون منه راجلين، يقاسون حرارة الصيف اللاهب وبرد الشتاء القارس. كما أن قسمًا كبيرًا من هؤلاء العمال ظلوا لفترة يسكنون خيامًا أقامتها لهم الشركة؛ لأنها لم تكن قادرة على توفير الغرف لكل العمال إبّان مدة عملية التوظيف والتوسع في الإنشاءات لدى أرامكو، وعلى العموم كانت أوضاع هذه الفئة من العمال، يومذاك، سيئة جدًا.
-
السيد
علي السيد باقر العوامي، الحركة الوطنية السعودية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق