بمناسبة صدور الترجمة العربيّة لمسرحيّة التشيكي ميلان كونديرا «جاك وسيّده» عن دار يسطرون بترجمة محمد عيد إبراهيم، أعيد نشر ترجمتي (عن الإنجليزيّة) لمقابلة أجراها آرثر هولمبيرج مع ميلان كونديرا حول المسرحيّة، منشورة في «Performing Arts Journal» - 1985م وقد نشرت الترجمة أول مرة في مجلة حكمة - ٢٠١٦م.
- أنت روائي في المقام الأول، لماذا تحوّلت إلى المسرح؟
كانت مسرحيّة «جاك وسيّده - Jacques and His Master» عملًا مرتبطًا بالظروف. في عام 1971م، بعد سقوط إلكساندر دوبتشك نظر النظام الجديد إليّ بعين الريبة. مُنعت كتبي وجُرِّدت من كافة وسائل كسب العيش القانونيّة. أقترح صديق يدير مسرح أن أكتب مسرحيّة لفرقته باسم مستعار. وهكذا رأت مسرحيّة «جاك وسيّده» النور نتيجةً لأزمة اقتصاديّة رهيبة. لكن إضافةً إلى الظروف الخارجيّة، فإن نداء المغامرة قد أغواني. لم أكتب مسرحيّةً من قبل، لهذا أردت أن أجرّب يدي في خلق عمل سيأخذني، أنا كاتبه، بالمفاجأة.
- هل منحتك الدراما [المسرحيّة]، بصفتها جنسًا أدبيًا، استراتيجيّات تعبير غير موجودة في السرد القصصي؟
راقني المرح المتأصل في التعبير المسرحي. المسرح لعبة، ولعب الألعاب مصدر مهم المتعة. الحياة الحقيقيّة مرتبطة بسلسلة من الخدع، كما تخيّب أملنا بعبثها. لكن عندما نلعب الألعاب، مثلما يحدث على المسرح، فإننا ندرك سلفًا أن اللعبة ليست أمرًا جادًا. لهذا فإن عبث الحياة التراجيدي يصير عبث اللهو البهيج. يتعلّم المرء سريعًا أهميّة الدعابة في ظل الأنظمة الشموليّة [التوليتاريّة]، تتعلّم أن تثق أو ألّا تثق في الناس وفقًا للطريقة التي يضحكون بها. يخيفني العالم الحديث لأنه يفقد على عجل حسّه بالمرح الكامن في اللهو.
- لماذا ديدرو؟ لماذا مَسْرَحْتَ «جاك القدري - Jacques the Fatalist»؟
الصديق الذي أوكل لي مهمة المسرحية أراد مَسرَحَة رواية، قد حاول في البدء أن يحشر أبله ديستايفسكي في حلقي، لكن ديستايفسكي يصيبني بالاشمئزاز، ليس لأن الدبابات الروسيّة تحتل بلدي وحسب، إنما من أجل ميلودراماه العاطفيّة المتّصلة أيضًا. أردت أن أبتعد عن الروح الروسيّة الرنّانة قدر الإمكان. نزعت إلى اتخاذ الابتسامة في منطق الكلاسيكيّة الفرنسيّة ملجأً.
الطبعة الأولى من المسرحيّة - ١٩٨١م. |
«جاك القدري» إحدى رواياتي المفضلة، واحدة من الروايات المهمة القليلة التي بُنيت وِفقًا لمبدأ المرح من أجل المرح، تبلغ العظمة برفضها أن تكون جديّة. مسرحت الرواية المفارقات القصوى «Terminal Paradoxes» التي قادت عصر الأنوار [التنوير]. كان ديدرو أحد أوائل من استكشف البون الكوميتراجيدي بين النوايا والأفعال البشريّة. نتائج ما نفعله تخرج عن أيدينا، كما أن التموّج الصادر عن لفتات مهملة يُشكّل غالبًا مشنقةً حول رقابنا. بعد ديدرو، لم يتمكن الروائيون من النظر إلى الحدث والحكبة بالطريقة السابقة ذاتها. يدرك ديدرو أن المفارقة هي القانون الأساسي لحياة الإنسان. لكن مسرحيتي ليست اقتباسًا من رواية ديدرو بصفتها حوارًا يعبر قرنين مع مؤلفها، أي مواجهة بين القرن الثامن عشر والقرن العشرين.
نظر ديدرو إلى المستقبل على أنه مساحة لا منتهية تُملأ بتقدم لا محدود، بينما ننظر إليه بخوف وارتياب. إذا استطاع ديدرو رؤية المسرحية من الضفة الأخرى في قبره، ربّما لن يتفق معي، لكن لا أظن أن مسرحيّتي ستغضبه إذا ما أخذ في الحسبان كل شيءٍ قد رآه عصرنا. سيدرك لماذا فقدنا إيماننا بالإنسان.
- ما هو أكثر ما تفضله في مسرحيتك؟
المونولوج الذي تناول الشعراء السيئين والشعر السيئ. أعطاني ديدرو بداية الخطاب لكنني توسّعت فصار في النهاية كونديريًا خالصًا. لم يعد أحد يقرأ الروايات، لكن كل شخص –على الأقل في فرنسا- يكتب واحدة.
- هل ستكتب أي مسرحيات أخرى؟
لا، أبدًا. كانت «جاك» الأولى والأخيرة. وجدت أنني أنزع كلما تقدمت في العمر إلى التركيز أكثر، وبحدة، على اختصاصي –الرواية. أريد أن أتعلّم كل ما أستطيع تعلّمه عن إمكانيات الرواية، أريد أن أستكشف أسرارها، حين كنت شابًا كان تركيزي مشتّتًا أكثر؛ السينما، المسرح قد شدّني أكثر منه اليوم. أمّا الآن راضٍ تمامًا بأن أجلس على مقعد مريح لأقرأ رواية.
أظن أنني فقدت الاهتمام بالمسرح بسبب الإنتاج الذي أراه حولي في باريس أيضًا، إنتاج صاخب ومبهرج وعديم القيمة. سترى ما أعنيه حين تذهب إلى مسرحيّة «الوهم» التي أخرجها جورجو ستيلر. يضجرني الاستماع إلى ممثلين يصرخون، وهكذا توقفت مرغمًا عن الاهتمام بالمسرح منذ أن انتقلت إلى فرنسا. دائمًا ما خلّفني هذا مُحبطًا جدًا. المسرح الذي أحب موجود في مسارح الجيب الصغيرة، في براغ، في حجرة مظلمة حيث يبدع السحر ممثلان أو ثلاثة دون دعائم ولا خلفيّات مشاهد تقريبًا، يولّدون الحياة من العدم. لكن براغ تلك لم تعد موجودة، وهنا في باريس لا جدوى من الذهاب إلى المسرح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق