(١)
هذه أنا مجدّدًا، على الطريق المؤدي إلى مدخل الحارة، في ظهيرة نهار رمضاني آخر تتوقد شمسه توقّدًا خفيفًا مخلّفة بعض البريق على الإسفلت، أستجيب لتلويحة زهرة صفراء صغيرة ثانية، أنعطف بسيّارتي إلى جانبها لكنني لا أغفل هذه المرة فأترك ناقل الحركة على (N) كما سبق أن فعلت -للمزيد من السياق تُقرأ تدوينة «موسم ربيع نجد»-، وكي لا يُساء فهم توقّفي ونزولي، كففت إصبعي عن تشغيل الومّاض (الفلشر)، خاصةً وأن سيارتي لم تعد على الطريق ولا حاجة لتنبيه أحد.
عقدت ذراعي أمام نبتة ربّما يبلغ ارتفاع ساقها نصف متر، لها أغصان رفيعة تنتهي بمجموعة زهور صفراء رباعيّة البتلات، يبدو طول البتلة الواحدة خمس ملِّيمترات، لم أجزم في البدء ما نوعها، غير أن ثمارها الخردلية المرئية من بعيد ألحّت عليّ لتقول إنها لا بد نوع من أنواع السّمارة، وقد كانت. «سمارة» اسم إحدى كبيرات السّن الذي ظننته دائمًا من السّمرة. إلا أن هذا قد بات غير منطقي بالنسبة لي، إذا ما نظرنا إلى أن أهل بادية نجد يصفون سُمرة البشرة بالخُضرة وسوادها بالزُرقة، قطعًا لن يكون اسم المؤنّث سْمَارَة من السُمرة! لا بد أنها من نبات السمارة، وقد كان أول أنواعها التي عرفت ما اصطلحوا على تسميته في المعاجم النباتيّة بالسمارة الرثّة، توجد أنواع نباتيّة أخرى مسمّاة بالرثّة أيضًا ولا أدري ما جذور هذه التسمية. للسمارة الرثّة زهور صفراء في منتهى الصغر، كنت أظنها مجرّد رؤوس صفراء من بعيد حين كنت أمر بها أو أقف لتصويرها، حتى اقتربت منها أشدّ القرب في ضحى أحد الأيام فتبيّنت بتلاتها المتفتّحة التي بالكاد تُرى.
رؤية نوع السّمارة الثاني في ظهيرة رمضانيّة أعاد لي الرغبة في كتابة تدوينة انبثقت فكرتها في البدء أثناء وقوفي ذات يوم أمام نفلة وحيدة في الحيّ. ولأصدق القول، فأنني الآن أكتب التدوينة ثانية بعد أن حذفت الملف خطأً ولم أتمكّن من استعادته صباح هذا اليوم حين اقترب نومي، وقد كانت النيّة أن أواصل كتابتها في المساء، لا أن أعيدها.
(٢)
راقبت في موسم ربيع نجد المنصرم نباتاته في كل مكان استطعت الوصول إليه، وقد أحصيت الأنواع المحدودة حينها التي نبتت في الحيّ، منها الذي لم أره من قبل إلا في البراري البعيدة، ومنه الذي لم أره مطلقًا حتى في حدود البراري التي وصلت إليها. من الملاحظ في السنوات الأخيرة تزايد نموّ النباتات البريّة داخل الأحياء في قلب العمران، لا الأحياء الطرفيّة وحسب. آنذاك، لم أفكر في غير مطاردة الربيع أينما كان، ولم تخطر لي أفكار أخرى تتجاوز الفضول تجاه أسماء الزهور وتاريخها في نجد وما ارتبط بها في الثقافة. في الموسم الحالي، الذي يوشك على نهايته، ازدادت الأنواع المزهرة التي نبتت في حارتي وحدها، هذا أكثر تنوّع اجتمع بحسب ما شهدت في بقعة بمساحة كيلومتر مربّع، حتى بلغت سبع عشرة نوعًا وهي: الشرشر والجثياء والحلاوى والشكاعى والعضيد والعفراء والربل والسمارة والحمّيض واليهق والتربة والنفل والخمخم والفنون والقرمل والقليقلان والراء. في إحدى جولات المساء في الحارة، اصطحبت «بناخيّ» الذي بدأ يتعرّف على الحروف في الرّوضة. كنت أسمّي له النباتات ليعرفها، حين مررنا بالراء قلت له وهذه الراء وسكتّ، فسألني «وش بعد؟» ظننته أن يسأل إن كان لها اسم آخر، فأجبته واسمها أيضًا الطرف، فأعاد مستفهمًا: «بس كمّلي الاسم اللي قلتيه.» لم ألتقط مقصده فورًا، فسألته أي اسم؟ فأجابني: «هذي -أشار إليها- قلتِ اسمها راء، وش بعد راء؟» ففهمت حينها أنه يظنّ أن ما قلته هو أول حرف من اسمها، أعدت عليه قولي بأن اسمها الراء فقط، هكذا الاسم قد اكتمل، فتعجّب: «حرف واحد وخلاص يخلّص اسمها!».
(٣)
في الموسم الحالي، حين وقفت في عصريّة أحد الأيام أتحقّق من إحدى الزهور إن كانت هي زهرة النفل أم لا، انتبهت إلى اسم نفلة ونفلاء للمؤنث ونفل ونافل للمذكر، القادمة كلها من هذه الزهرة الصفراء الهشّة! بالطبع ليست تسمية الإنسان على مخرجات بيئته والأشياء المحيطة به أمرًا خارقًا للعادة، فهذا تقليد عريق ومعروف في ثقافات مختلفة، لكن لم يسبق لي أن فكرت في مسألة التسمية على أشجارنا ونباتاتنا البريّة تحديدًا، وبالأخص فيما يخص الذكور، الأمر الذي تبيّن بالبحث أنه أشيع ممّا توقعت.
لا أظن اليقين ممكن دائمًا في نسبة الاسم إلى مصدر واحد، لكن توجد أسماء عديدة أميل إلى ترجيح اقتباسها من النبات البريّ أو من مظاهر الربيع، لأنها لا تبدو منطقيّة في سياق آخر. ما أذكره هنا اجتهاد شخصي بطبيعة الحال، لا أملك عليه دليلًا، غير أن هذا ما استنبطته وما يبدو أنه الواقع. سأورد هنا الأسماء المسموعة التي لم أجد من أشار إليها من قبل أثناء بحثي، وهي قائمة قابلة للزيادة كلما حضرني اسم جديد، كما أشيد قبل ذكرها ببحث الدكتور أشرف محمد ساعدي علي المعنون «التسمية بأسماء النبات في المملكة العربيّة السعوديّة» والمنشور في عام ٢٠٢١م -لقراءته يُضغط هنا-. الذي أورد فيه العديد من الأسماء من مختلف المناطق، وقد تجنّبت هنا ذكر الأسماء التي وردت في بحثه.
كما تجنّبت الأسماء التي أرجح أنها من المشترك بين تسمية الإنسان والحيوان والنبات مثل «عفراء»، إذ أرجّح أن اسم المؤنث عفراء واسم النبتة عفراء لم تتأثر ببعضها، بل هي من المشترك بين أسماء الإنسان والحيوان والنبات، فثمة امرأة عفراء وزهرة عفراء وناقة عفراء. مثلها مثل اسم كحيلة وكحيلاء ونبات الكحيلة.
عَبْرِيّة/ مذكّرها العَبْرِي: على نوع من السدر، ورد في لسان العرب «السّدر لونان: فمنه عُبْرِيّ ومنه ضال، فأما العبري فما لا شوك فيه إلا ما لا يضير، وأما الضّال فهو ذو شوك.»
رَزْنَة/ رِزْنَة/ أَرْزَان: مناقع الماء، المفرد منها رزنة والجمع أرزان. أرزان من نسخ الاسم المستعملة حديثًا، وقد ظننت أول ما سمعته أنه من الأسماء العشوائيّة التُي تختلق لها المعاني.
سْمَارَة: على نبات السّمارة، واسمها الآخر شلوى الذي لا أعرف من تسمّى به عدا السيّدة التي ربّت «طيور شلوى» في الإرث الشعبي.
طرفة: مفرد الطرف، وهي الراء.
مِزْنَة ومْزِينَة ومْزَانة: من المُزْن، واحدته مُزْنة وهي السحاب، وتصغيرها مُزَينة. من نسخ الاسم الدارجة حاليًا: مُزن ومزون.
مِنوِر: أي المكان المزهر، الذي ظهر فيه النوّار.
نويّر: تصغير النوّار، وهو الزهر، حيث يقال في مفرد التصغير: نويّر ونوّيرة ونويويرة وجمعها نويّرات ونوّيرات ونواوير ونويويرات. لا أرجح أن يكون تصغير «نُورَة» وإلا لكان نويرة. تشترك في جذرها مع الاسم العربي العريق الجميل: نوَار للمؤنث، أي المرأة النافرة من القبيح. بالمناسبة، اسم نوَار اسم علم مذكّر في بادية نجد. أيضًا أثناء البحث قرأت شيئًا عجيبًا عن اسم نورة في لسان العرب: «نُورَة اسم امرأة سحّارة، ومنه قيل ينوّر عليه أي يخيّل، وليس بعربي صحيح.»
(٤)
خلال انشغالي بالأسماء، استعاد ذهني ما قرأته ذات مرّة عن اسم «ڤانيسّا»، وهو اسم صاغه جوناثان سويفت، مؤلف «رحلات غاليفر» لتلميذته إستر ڤانهومراي (Esther Vanhomrigh) التي امتدت بينهما علاقة عاطفية لسبع عشرة سنة كانت وبالًا عليها، إذ هجرها من أجل أخرى وما طابت نفسها منه حتى ماتت. كان «إيسّا» هو اسم الدلال لإستر، أخذ جوناثان سويفت «ڤان» من اسم عائلتها وأتبعه باسم الدلال ليبتكر اسم «ڤانيسّا». ظهر الاسم لأول مرّة في عام ١٧٢٦م. في المطبوعات، ضمن قصيدة كانت سويفت قد كتبها عن علاقتهما في عام ١٧١٣م لكنه لم ينشرها إلا بعد وفاة ڤانيسّا بثلاث سنوات. أُطلق عالم الحيوان الدنماركي يوهان فابريكيوس لاحقًا الاسم « ڤانيسّا» على أحد أجناس الفراشات، الذي يعرف في العربيّة باسم «بشّورة». الله كم أود أن أتيقّن من أصل الأسماء العربيّة مثل هذا التيقّن!
(٥)
نعمت علوي بيك - ١٩٣٠م. بعدسة المصوّرة الأميركيّة لي ميلر التي تزوّجت لاحقًا عزيز علوي بيك، زوج نعمت الأول. |
فيما أهمّ بقطف زهرة ذات شوك لأضعها في مزهريّة بيضاء حفرت عليها زهور صغيرة، مزهريّة بحجم كفّ طفل، أهداها إليّ أحد طلابي الصغار في يوم المعلم. استعاد ذهني فيما استعاد هذه الفترة الحكاية التي تُروى عن موت ريلكة. يقولون أنه الشاعر الذي قتلته زهرة، كأنّما قطفت الزهرة روحه إذ قطفها. لم تتسنّ لي فرصة مطاردة الحكاية من قبل، لكن من ظاهرها يبدو أنها مبالغة. تقول الحكاية أن الحسناء المصريّة من أصول تركيّة نعمت علوي بيك كانت محبوبة ريلكة، وقد جاءت لزيارته في أحد الأيام. هرع ريلكة إلى حديقته لينظم باقة زهور يقدّمها إلى نعمت، أثناء قطف الزهور وخزته شوكة إحداها، لم يشف جرحه، والتهبت ذراعه بأكملها مع الأيام، وتأثرت ذراعه الأخرى، وهكذا كما تقول الحكاية أن الزهرة التي قطفها من أجل نعمت قتلته. ربّما أن وخزة الشوكة قدحت الأعراض التي قادت إلى اكتشاف إصابته باللوكيميا التي أودت بحياته خلال شهر من الحادثة في آخر عام ١٩٢٦ وهو بين يدي طبيبه، بحسب رالف فريدمان الذي تتبّع سيرة ريلكة. أورد في كتابه أن نعمت خلال مرضه الأخير الذي أعقب قطفه للزهرة كانت تبعث له الزهور كل يوم، إلى أن بعث لها برسالة يرجوها أن تتوقّف، فريلكة الذي أحب الزهور بات يراها تجلب الشياطين إلى غرفته.
(٦)
لندع نعمت وريكلة وجوناثان سويفت ونعود إلى نجد، لا يُمكن أن يُذكر نبات القليقلان دون أن يذكر الكائن الخرافي «صيد أسعد». تنسب الخرافة اسم هذا الكائن إلى من صاده أول مرة، وهو المدعو أسعد، ولا تأبه كثيرًا بتتبع التسمية. معروف أن القليلقلان من النبات الرعوي الذي يسمن عليه الحيوان. تقول الخرافة أن صيد أسعد كائن غبيّ، له رأس وجذع وأذرع إنسان، وعجيزة وأرجل ضأن، لهذا غذاؤه القليلقلان الذي ينمّي قسمه الحيواني. تشير الخرافة إلى أن غباء صيد أسعد كان وراء انقراضه، وبسبب امتلاء قسمه الحيواني بالشحم الذي يطلبه الإنسان، صار مطاردًا، وكان البشر يجدونه قرب أماكن نمو القليقلان. في أحد المرات، ربما حين لم يظل غير ثلاثة منهم، تواروا خلف الأشجار حين مرّ بهم صيّاد. انتبه الصيّاد لأحدهم بسبب عجيزته التي أطلّت من وراء الشجرة فاصطاده، حينها شمت صيد أسعد المتواري مخاطبًا أخاه: «جنيت على نفسك بالقليلقلان الذي تسابقني عليه.» فاصطاده الصيّاد إذ عرف مكانه بصوته، فقال الثالث: «اقمح، لولا حسّك ما دري بك!» فصاده الرجل وانقرضوا.
«باقة بريّة»: صورة لمزهريّتي التقطتها عرضيًا لحسابي في انستغرام. |
(٧)
لا أريد لذهني أن يشغل بغير الربيع.